من المقرر في شريعتنا.. أنه مهما جاء الإنسان بأبشع الذنوب، واقترف أشد المعاصي والخطايا.
فإن الله تعالى يدعوه للتوبة والإنابة ويبشره بغفران الذنوب، ومحو السيئات.
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} البروج 10
قال الحسن البصري رحمه الله:
“انظر إلى هذا الكرم و الجود، قتلوا أولياءه و هو يدعوهم إلى التّوبة و المغفرة”
ومن هنا ذم الله تعالى اليأس، وحذر من القنوط، مهما كان الإسراف على النفس، ومهما كان ثقل الذنب ضخماً وحجمه كبيراً.!
قال تعالى: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف87
أرأيت إلى هذا اليأس الذي يبغضه الله تعالى؟
قد تكون أنت داعية له وسببٌ فيه!. . حينما تتهم العصاة بغلظة، وتنهرهم بقسوة، فتدفعهم هذه الخصومة المنكرة، أن يتمادوا في غيهم معاندين مكابرين، وقد كانوا يرجون منك كلمة حانية، و نصيحة هادية!
لماذا نغفل دائماً أن يكون هؤلاء العصاة في يوم من الأيام أفضل منا عند الله، حينما يفيق أحدهم من غفلته، ويتوب إلى ربه، ويتحول بذل المعصية، من أخشع الخاشعين، بينما غيره يتعالى منتشياً بطاعته.
تأمل هذه الأحاديث الشريفة:
- قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم:
(يَقُولُ كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ أَقْصِرْ فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ. فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا، عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا، وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ؟ ) . (سنن أبى داوود) حسن
وعَنْ جُنْدَبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ:
(أَنَّ رَجُلاً قَالَ وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَك) أَوْ كَمَا قَالَ. (صحيح مسلم) صحيح
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا. مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ” الصحيحان
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِالْفَقِيهِ كُلِّ الْفَقِيهِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَيِّسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَلا يَدَعُ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى مَا سِوَاهُ، أَلا لا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ وَلا عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ وَلا قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ ” جامع البيان لابن عبد البر- مرفوع
وعلى ما عرف من عمر رضي الله عنه من شدة في الحق إلا أنه كان رفيقاً ليناً بالعصاة يدعوهم ويرجو هدايتهم، ويذكرهم بغفران الذنوب، قبل أن يذكرهم بشدة العقاب!
فعن يزيد بن الأصم: أن رجلا كان ذا بأس وكان يوفد على – عمر رضي الله عنه لبأسه وكان من أهل الشام، وأن – عمر فقده فسأل عنه فقيل له: تتابع في هذا الشراب. . فدعا كاتبه فقال اكتب:
من عمر بن الخطاب إلى فلان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، ثم دعا وأمن من عنده، ودعوا له أن يقبل الله بقلبه وأن يتوب عليه، فلما أتت الصحيفة الرجل جعل يقرأ ويقول:
غافر الذنب.. قد وعدني الله أن يغفر لي، وقابل التوب شديد العقاب. قد حذرني الله عقابه، ذي الطول، والطول الخير الكثير، لا إله إلا هو إليه المصير، فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع، فلما بلغ – عمر أمره، قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زل فسددوه ووفقوه وادعوا الله أن يتوب عليه. (1)
وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إني قتلت فهل لي من توبة، فقرأ عمر رضي الله عنه {حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب}
وقال: اعمل ولا تيأس.) (2)
إن دعاة اليأس.. يجترون الناس للمعاصي جراً.. ؟ ! !
وحينما ترتكب المعصية لا يمكن أبداً أن ينبت في خيالهم شيء من معاني التوبة والندم والرجوع إلى الله تعالى.. وإنما الذي ينبت ويتوغل في عقولهم، هو ذلك التصور الموهوم من إنكار المنكر، والأخذ على يد الجاني.
وإذا كان الحق سبحانه ينهى عن اليأس، ويدعو للتوبة، فكيف بداعية حصيف أن يُعرض عن هذه الرغبة الإلهية، أو تغيب عنه هذه المعاني التي تؤهل المخطئ لصفحة جديدة في حياته.؟ !
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قاوم كل بذور اليأس، ووقف في وجه كل دعوة للقنوط من رحمة الله، وأقسم بربه. . أن توبة هذا المذنب، لو وزعت على أهل الأرض لكفتهم أجمعين.!
أتعجب كل العجب.. من هذا الداعية المتدين، الذي عرف ذنوب العصاة، وكلما مر بأحدهم عبس في وجهه وأعرض عنه، بل ربما لمزه أو غمزه بكلمة أو حركة.
حتى يدفع هذا المذنب لا لكي يتوب، وإنما ليرمي نفسه في البحر منتحراً، أو يلقي بها من فوق قمة جبل شاهق، ليتحمل وزره في النهاية بحماقته وجهله.
وإذا لمت هذا الداعية المؤنب، يقول: إنما فعلت ذلك لأشعره بذنبه، وأُجرعهُ مرارة معصيته، حتى لا يعود لمثله مرة
أخرى، ولكنه للأسف لم ينصرف عنها فقط، وإنما انصرف عن الحياة جملة.
إننا نؤكد بقوة.. أن الدعوة المجردة من معالم الفقه والوعي والفهم الدقيق لطبائع الناس تفسد أكثر مما تصلح،
وأن الداعية الذي يسلك القسوة مركباً لن يكتب له القبول ولن تتمكن دعوته من قلوب المدعوين. . ولو أن هذا الداعية على درجة من الفهم. .
لكان له مع المذنب شأن آخر يقوده للتوبة والإنابة، ويزرع في قلبه الأمل والرجاء، ويفتح له صفحة جديدة من الطاعة والإيمان.
إن الله تعالى غفور رحيم، كما أنه شديد العقاب، ولكن. . لا أعلم لماذا يغفل دعاة اليأس عن المعنى الثاني، ولا يدركون من حقائق ربهم سبحانه إلا أنه شديد العقاب؟!
كثيرٌ من الدعاة لم يتخلصوا من أمراض النفوس بعد، و ربما تسببت الدعوة في إنماء كثير منها.. إنهم جبلوا على حب التقريع والتوبيخ وتعيير المخطئين.
بل يعانون من نقصٍ مركب، يدفعهم بين الحين والحين لتذكير المقصرين بسقطاتهم، حتى يظهروا تميزهم، ويبرزوا كمالهم، ويتعالون على المجتمع بطاعتهم.
ألا فليعلم دعاة اليأس علم اليقين، أن الكنود القديم لا يجوز أن يكون عائقا أمام أوبة صادقة، وتوبة حقيقية، فالله تعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الزمر53
وإلى هذا المذنب التعيس، الذي تحامل على نفسه وتجرع ما يرميه به دعاة اليأس، نقول له ما قاله شيخنا الغزالي رحمه الله:
“لا تؤودنك كثرة الخطايا، فلو كانت ركاما أسود كزبد البحر، ما بالى الله عز وجل بالتعفية عنها، إن أنت اتجهت إليه قصدا، وانطلقت إليه ركضاً”(3)
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
(1) – حلية الأولياء
(2) – تفسير ابن كثير
(3) – جدد حياتك للشيخ محمد الغزالي
الكاتب: حاتم سلامة
المصدر: موقع إسلاميات